الجمعة، 12 يوليو 2013

البَّرَانــي..

على كرسي حجري في حديقة عامة، بثيابه القذرة وشعره الأشعث ممدد بكل رفاهية متكئ على مرفقه، بكل عنجهية ينفخ دخان سيجارة ويصرخ "أنا الملك" تمر غير بعيد عنه نساء فتخشاه وتخشى نوباته، يمر قربه كهول فيحوقلون، ويمر بمحاذاته شباب فيبتسمون بين السخرية والإعجاب أن قحاً هو الملك، فلا سلطان عليه.
ذاك هو عمّي الزبير شيخ مشرد، مجنون تارة وعاقل أخرى، عرفه الجميع كما تعلّموا أن يرهبوه، في أقصى حالات جنونه يشتم ويعربد ويكسر كل ما في طريقه، في أقصى حالات هدوئه يكون ورعاً حكيماً يقول أن الدنيا غدارة ويقول أيضاً: "أنا زمان كنت.." ولا أحد يعرف قصته ولا ما كان لأنه لم يكمل الجملة إطلاقاً.
كانت تسير ببطء خطواتها وئيدة لكأنها تخشى السقوط، محنية لا ترفع رأسها عن الأرض إلّا نادراً ليس حياءً بل حتى لا تغفل عيناها عن مواضع رجليها، تتمتم: " يا حسراه زمان كي كنت.." لكن الجميع يعرف ما كانت خالتي جوهر سيدة القوة وصاحبة القد الممشوق والخطوات الثابتة، قيل أنها أول من التحق بجبهة التحرير في حيّها، وقيل أيضاً أنها كانت صاحبة هيبة ومازالت رغم الكبر، أصيبت أثناء حرب التحرير ونقلت إلى تونس وزوجها مفقود منذ أن اعتقل في إحدى المداهمات، كما أنّها فقدت ابنها الوحيد في العشرية السوداء وذاك فقط ما أحناها بهذا الشكل.
كانت تسير وتسمع صراخاً فظاً وكلاماً قبيحاً في ناحية من نواحي الحديقة، كعادتها القديمة لا تخشى شيئاً اتجهت حيث الضجيج وحيث الناس تفر وتتجنب المرور، كان عمّي الزبير يعربد ويزبد ويشتم ويردد "أنا الملك" لكنّه توقف فجأة وسكن، أخذ ينزل عن المقعد ببطء وعيناه لا ترتفعان عنها، مشدوه إليها وقد ذهب عنه كل ارتعاشه، همس مرات عدة ثم صرخ: "أعدت؟ أعدت؟ أيعود الأموات؟ " عرفها رغم وجهها المجعد الذي زادته المحن والحزن سمرة 
 كانت خالتي الجوهر قد رفعت رأسها عن الأرض وتجمدت مكانها، اغرورقت عيناها.. تغيرت ملامحها همست أنه الزبير نادته مرات عدة بصوت مختنق، كان عسيراً عليه أن يسمعها وعسيراً عليها أن ترفع صوتها، عرفته رغم بياض شعره وتشعثه رغم وجهه المخفي خلف لحيته القذرة الطويلة.
أخذ يقترب منها وقد عاد إليه ارتعاشه، كانت تعلم أنه غاضب فهي تعرف كل حركاته، حملق في وجهها سألها باستغراب : "متى عدت يا الجوهر" ردت " لم أرحل أصلاً يا الزبير" شد رأسه بكلتا  يديه أغمض عينيه، قال: " أين كنت إذاً؟ " ردت: " في تونس" صمت برهة ثم بدأ يبكي كطفل صغير ويردد " لقد قتلوا أخي يالجوهر عذبوه وقتلوه، وحين هربت من الكهف لم أجد الوطن" أخذت تبكي بصمت، سكت عن نحيبه سألها وقد نظر إلى بطنها " أين ابني؟ " وقفت استقامت بجهد وقالت" مات، مات رجلاً" 
 تركته منكمشاً في كرسيه يردد " أنا البرانّي أنا المقطوع" كانت تبكي وتهمس" لم يقتله العدو جنيناً ولا رضيعاً ولا طفلاً لكن قتله الوطن رجلاً" سألها شاب إن كانت تعرف ذاك المجنون ومن هو فقالت بحزن " إنّه مجاهد" نظرت إليه وأتمت"بل بقايا مجاهد"
  آمـــال بوضـياف

  

ليست هناك تعليقات: