كان قبرها صامتاً عكس ما توقّع.. بقربه بضع حجارة تنبئ عن قبر جديد أو.. هذا ما يقولونه في مدينته.. تساءل بهمس: "لمن القبر التالي يا ترى؟ من ستأخذين بعدك؟ " قرأ الفاتحة وهو مؤمن أنّ روحها تستحق القرآن كله.. فموتها لم يكن عادلاً لأمّ أمضت عشرية من الدّم تهرب بأبنائها من الموت من مكان لآخر.. كان قدرها أن تسكن القصدير وأن تعمل منظفة لوساخة بشر لا تزول ولا ترحم.. كانت كرامتها فوق ذل المسألة وأخلاقها أعلى من أي نذالة..
ماتت مرتان.. هكذا يعتقد، الأولى حين أقسمت امرأة وزوجها أنهما شاهدا ابنتها في مدينة أخرى بلباس خليع، انهارت.. لطمت وجهها.. صاحت: " عام يا ربي عام.. عام ما نسمع ولا شيء وكي نسمع لازم نموت يا ربي.. لازم نموت يا ربي علاش.. علاش يا ربي علاش"
لم يكن وصول تلك المدينة صعبا لامرأة تعودت أن تكون رجل.. لكنها قصدته ليلتها كان وجهها مسودّاً كقطعة الفحم التي تداركها الرماد قالت أنها لا تملك المال.. قالت أنها لن تبرأ من العثة التي تربت دالخها حتى ترى كيف تحول ما بقي من سنين عمرها إلى عهر..
لجأت إليه لأنه الغريب الذي ساندها وبقي إلى جانبها منذ مقتل ابنها الشاب في ذلك الانفجار بالسوق.. الغريب الذي لم يخذلها أبدا رغم أن الزمن كان زمن الخذلان والموت..
استقلا سيارة أجرى نحو المدينة الاخرى.. لم تنطق بأي كلمة طول الطريق ولكنها لم تكن شاردة كانت جسد بلا روح تقبع بجانبه كتمثال ينتظر لحظة تهاويه.. هناك أين نسائم البحر تعبّق الارجاء أين الجو مخنوق بعفوتنه.. تتبعا الوصف وبسؤال بسيط اشارت كل الصابع أن "إلى هناك.." وصلا عمارة عتيقة درجها ضيق تتبعا أول رواق صادفاه.. كانت هناك.. تصرخ بشخص ما كانت سافرة بل كانت حامل..
لم تتفوه الأم بكلمة اكتمل سواد وجهها حتى غابت ملامحها.. اتجهت نحوها.. توقع أي أمر إلّا أن تخنقها.. كان الأغرب أن ابنتها لم تقاوم بل استسلمت تماما.. أسرع نحوهما حاول جاهدا فك قبضتها ولكن دون جدوى..
أخذ رأسه بين بيده لم يعرف ماذا يفعل.. يتصل بالإسعاف أم بالشرطة.. طلب منها أن تهرب.. كانت جاثمة بقربها بصرها لصيق بالأرض قالت بصوت هادئ: "هربتُ بما يكفي، أخذ الإرهاب زوجي وابني ومع أني صوت بلا للمصالحة في تلك السنة إلّا أنها تمت، ربيتها كما آمنت بالتربية انظر إليها.. وأرسلتها لتتعلم وتخرج نفسها من الفقر.. ماتت أنظر إليها.. بل أنظر إليّ"
عاد إلى مدينته وقد تضاعف حزنه القديم، لكنه لم يعد بها.. توفيت ليلتها في السجن.. ماتت للمرة الثانية.. توقع أن يكون قبرها صاخباً لأنه يؤمن أن الفاجعة التي لا تشفى يبقى صراخها عالياً حتى عندما يدفن صاحبها.
آمال بوضياف