"أخذت العقدة بين أصابعي ثم
شددت طرفيها بقوة، فُكَّت العقدة ولكنّ الخيط انقطع فلم أدر أفرجت أم ضاعت.. ربّي
قال المال والبنون زينة الحياة الدنيا
أمّا أنا.. فالباقيات الصالحات في حياتي كلّها لم تشفع لأن لا تكون بدل الزينة
فتنة" هكذا قال جد أبي وهكذا حكى لي جدّي.
وعبر
الأزل كانت الفتنة امرأة "الخير امرا والشر امرا" صهباء زرقاء العينين
تلمعان كأفعى رغماً عن وجهها المكسو زغب أصفر وبراءة، جمال أوربي لم يزعزعه شعرها الأشقر المجعد، خلبت به لب الأربعة أولاد سيدي امحمد السايح، بنت الخماس الذي قضى
عمره في خدمة الاسباني "باتيس" كانت تخرج للبساتين تساعد والدها بلا
اهتمام تقفز كغزال بين أشجار البرتقال، يطالها النظر المغضوض لأولاد سيدي
السايح ذهاباً وإياباً من الأكبر الذي يدير زرق العائلة البسيط للأصغر الذي يحيى في ذلك
الرزق، قالت جدة أبي أنّها بنت خماس لا تصلح عروساً حتّى للثلاثة المتزوجين من
أبنائها إذ "باتيس" نفسه زاهد فيها، ولكن سيدي السايح قال "يتزوجها
الأصغر محمد حتى لو راح الرزق وخلات الدار حتى من القط والفار"
ليلة
دخلتها كسر عم أبي الأكبر كل أثاث غرفته ورماه علنا في الحوش مصعداً احتجاجه
معلناً ولهه، قال أنه أرادها لنفسه وطلبها علناً بل توسل ذلك من سيدي السايح، وسكت
أخويه الثاني والثالث لأنّهما طلباها سراً وعشقاها بصمت، وحده جدي محمد من نام
مرتاح البال مطمئن فـ "البهصة" بين يديه.
في
صباحها خرجت الصهباء تختال في حوش الدار بفخر ملفوف بخجل مصطنع توزع الابتسامات
بين الغرف، ترمقها أعين نساء البيت بحقد وتوعُّد، وكان
سيدي امحمد جالساً على كرسيه العتيق في الغرفة الكبيرة غارقاً في صمت مهيب مثبتاً
عصاه على الأرض بقوة، عيناه لا تبرحان الباب أين تقف كنته صامتة تهز صغيرها المنهار
من البكاء متوارية عن نظره في حضرة زوجها الذي تراقبه يندب ضياع الصهباء من يديه
وتوعُّدِه بتبديد الزرق، على جانب الكرسي كان يجلس ابنه الثاني متجهم الوجه أسمر
أكثر ممّا يجب يردد بصوت خافت متحسر: "آ البهصة.. منّيت روحي بيك"
وبالقرب كان المكان فارغاً للابن الثالث الذي قال: "ما نعيش في دار فيها
البهصة مَرْةْ راجل آخر حتى ولو خويا" التحق بهم جدّي محمد مندهشاً متذمّراً:
"مرا كِالنْسا آبويا.. علاه عليّا ذا الضبيح*"
قال جدي أن والده
سيدي السايح أجابه يومها بأنه لا يعلم أفرجت أم ضاعت ولم يقم من كرسيه ذاك
إلّا لقبره.
بغير ندم حكى جدّي أن أخاه الأكبر حج في ذلك العام وتوفي
في البقاع المقدسة لأنه دعا الله أن يأخذه ويرحمه من رؤية الصهباء حبلى، أمّا
أخويْه فالأول صام عنه ولم يكلمه سوى في الأعياد وعاشوراء، والثاني قاطعه وظل
"معاديه" إلى يومه ذاك.
توفي الجميع والصهباء جدّتي بقيت حية بجهلها لم تع أبداً
ما انفرط من عقد اولاد سيدي امحمد السايح بسببها، تحب أبناءها الأربعة وتجمعهم كما
لم تفعل أذكى بنات جيلها من الأمهات، تضحك بسذاجة وتعبر بتلقائية وتشتم من الأعماق
وبعفوية حين نفاجئها من خلف حائط أو ستار دون أن نندهش ممّا هو عيب ولا مما هو قبيح، مأخوذين بالبحر الّذي
مازال يتلاطم في عينيها، حين نسألها عما حلّ بسيدي السايح وأولاده تجيب ببساطة ولا مبالات:
" وما أدراني.. قالوا هو عقدها وما عرفش يحلها"
*الضبيح: كلمة عامية تعني الصراخ والكلام الكثير حول موضوع ما بحسد أو غيرة
*الضبيح: كلمة عامية تعني الصراخ والكلام الكثير حول موضوع ما بحسد أو غيرة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق