مضى وقت طويل منذ آخر يوم نزلت فيه في محطة القطار.. منذ آخر زيارة لي للعاصمة.. منذ أشهر لم تعد صحتي تسمح بغير التنقل بالسيارة أو نزهات قصيرة تتخللها فترات راحة طويلة.. يقال في شارعنا: "الصحة عدوة مولاها" لا عدو لك سوى صحتك..
قبل بضعة أشهر قال الطبيب أن أي إجهاد أو تعب سيسبب لي مضاعفات قد تؤدي إلى موتي.. ما معنى أن يهددك الموت في كل لحظة.. أسوأ ما في الأمر.. أو بالأحرى أكثره ألما أن تنظر في عيني أمك.. لن ترى فيها سوى الظلام تقول بغير صوت "لو أن الصحة تعطى لأعطيتك كل عمري" آه أمي ماذا نفعل بأقدارنا لو أنه قُدّر أن يكون عمرك أطول من عمري وأنت التي تقولين دائماً ننجب أبناءنا ليدفنوننا لا لندفنهم.. لم أنجب لأعرف ما معنى أن يكون لك ولد.. لم أستطع جعلك ابنتي لم أستطع أن أشعر إلّا أن تكوني أمي وأنا ابنتك أحتمي تحتك أتمرغ في حنانك أعتمد عليك في كل شيء حتى قبل أن أصاب بهذا الداء.. لم أستطع أن أشعر اتجاهك كما أشعر بأبي.. أبي إبني الذي أنجبني.. شعرت بالأبوة دائماً وأنا أنظر إليه وأرقب حركاته وأتلصص عليه لألا ينقصه شيء أو يطلب شيء ما.. هو أبي وابني وأنت أمي وفقط..
نزلت في محطة القطار تلف ذراعي صديقتي والهاتف لا يكف عن الرنين كل عشر دقائق إما هاتفي او هاتفها إما أمي أو أبي.. كنت أبتسم لها باستمرار كنوع من الاعتذار.. لم يكن هناك مجال لنغلق الهاتف ولا لنسكته ولا لنتجاهله.. حتى تشجعت وترجيتهما أن يطمئنا ولو لساعة كاملة..
سرنا لبعض الوقت في صمت كنت أتأمل الحياة كيف تمضي وكيف أن العاصمة ثابتة لا تغير من نفسها ولا من أناسها.. ثم استدركت بل الناس يتغيرون أكيد.. سأرحل أعلم ولكن دون أبسط بصمة.. دون حتى مجرد ولد ولو عاق.. لم أشعر بجدوى الأمومة يوماً إلّا حين تأكد موتي.. سينساني الجميع ما عدا جرح في قلب والديَّ ودمع أعلم أنه لن يجف.. اعتذرت كثيراً لأمي لأني تسببت لها في كل ذلك الألم.. وتذكرت محمود درويش حين قال.. "وأعشَقُ عمرِي لأني إذا مُتُّ، أخجل من دمع أُمي" آه أيها الشاعر كيف لك أن تترجم وجعي وكيف لك أن تعرف أني يوماً سأموت قبلها.. لعلها تسامحني يوماً كما فعلت دائماً..
هزتني صديقتي وأخرجتني من شرودي تساءلَتْ في أي بحر كنت لحظتها.. قلت ببساطة لا بحر لي سوى الموت فقدت كل الأشياء معانيها.. كنت بحاجة لأن أبتسم ولو بسخرية فقلت أن شئياً واحداً يحز في نفسي ويقض مضجعي هذه الأيام.. يزعجني بصدق أني سأموت قبل أن أحفظ شوارع العاصمة وتسمياتها.. انفجرت ضاحكة تردد أنه حقاً لمحزن.. وسألتني بشيء من الجدية عن ثقب الأزون وعن فيروس أيبولا وعن القضية الفلسطينية.. وإن كان حقاً لا يحزنني أن أموت قبل الرئيس.. حينها فقط ضحكت بعمق ولم أجد سوى العبارة الشهير "للكعبة رب يحميها" يكفيني الطريق إلى شارع الأمير..
أن تسير والموت في خطين متوازيين يمكن لهما أن يتقاطعا في أي لحظة لا يعني أنك ستحزن ولكن سيصمت كل شيء فيك ويكتفي بالتأمل.. حتى الموت نفسه لن تنتظره.. ستشعر بأنك تريد أن تشبع روحك من كل تلك الأمورالتي كنت تحبها.. ستشعر بجمال الحياة وعدم جدواها.. تناقض غير مؤذٍ وجميل.
يتبع...
من مذكرات امرأة لم تعرف كيف تعيش
قبل بضعة أشهر قال الطبيب أن أي إجهاد أو تعب سيسبب لي مضاعفات قد تؤدي إلى موتي.. ما معنى أن يهددك الموت في كل لحظة.. أسوأ ما في الأمر.. أو بالأحرى أكثره ألما أن تنظر في عيني أمك.. لن ترى فيها سوى الظلام تقول بغير صوت "لو أن الصحة تعطى لأعطيتك كل عمري" آه أمي ماذا نفعل بأقدارنا لو أنه قُدّر أن يكون عمرك أطول من عمري وأنت التي تقولين دائماً ننجب أبناءنا ليدفنوننا لا لندفنهم.. لم أنجب لأعرف ما معنى أن يكون لك ولد.. لم أستطع جعلك ابنتي لم أستطع أن أشعر إلّا أن تكوني أمي وأنا ابنتك أحتمي تحتك أتمرغ في حنانك أعتمد عليك في كل شيء حتى قبل أن أصاب بهذا الداء.. لم أستطع أن أشعر اتجاهك كما أشعر بأبي.. أبي إبني الذي أنجبني.. شعرت بالأبوة دائماً وأنا أنظر إليه وأرقب حركاته وأتلصص عليه لألا ينقصه شيء أو يطلب شيء ما.. هو أبي وابني وأنت أمي وفقط..
نزلت في محطة القطار تلف ذراعي صديقتي والهاتف لا يكف عن الرنين كل عشر دقائق إما هاتفي او هاتفها إما أمي أو أبي.. كنت أبتسم لها باستمرار كنوع من الاعتذار.. لم يكن هناك مجال لنغلق الهاتف ولا لنسكته ولا لنتجاهله.. حتى تشجعت وترجيتهما أن يطمئنا ولو لساعة كاملة..
سرنا لبعض الوقت في صمت كنت أتأمل الحياة كيف تمضي وكيف أن العاصمة ثابتة لا تغير من نفسها ولا من أناسها.. ثم استدركت بل الناس يتغيرون أكيد.. سأرحل أعلم ولكن دون أبسط بصمة.. دون حتى مجرد ولد ولو عاق.. لم أشعر بجدوى الأمومة يوماً إلّا حين تأكد موتي.. سينساني الجميع ما عدا جرح في قلب والديَّ ودمع أعلم أنه لن يجف.. اعتذرت كثيراً لأمي لأني تسببت لها في كل ذلك الألم.. وتذكرت محمود درويش حين قال.. "وأعشَقُ عمرِي لأني إذا مُتُّ، أخجل من دمع أُمي" آه أيها الشاعر كيف لك أن تترجم وجعي وكيف لك أن تعرف أني يوماً سأموت قبلها.. لعلها تسامحني يوماً كما فعلت دائماً..
هزتني صديقتي وأخرجتني من شرودي تساءلَتْ في أي بحر كنت لحظتها.. قلت ببساطة لا بحر لي سوى الموت فقدت كل الأشياء معانيها.. كنت بحاجة لأن أبتسم ولو بسخرية فقلت أن شئياً واحداً يحز في نفسي ويقض مضجعي هذه الأيام.. يزعجني بصدق أني سأموت قبل أن أحفظ شوارع العاصمة وتسمياتها.. انفجرت ضاحكة تردد أنه حقاً لمحزن.. وسألتني بشيء من الجدية عن ثقب الأزون وعن فيروس أيبولا وعن القضية الفلسطينية.. وإن كان حقاً لا يحزنني أن أموت قبل الرئيس.. حينها فقط ضحكت بعمق ولم أجد سوى العبارة الشهير "للكعبة رب يحميها" يكفيني الطريق إلى شارع الأمير..
أن تسير والموت في خطين متوازيين يمكن لهما أن يتقاطعا في أي لحظة لا يعني أنك ستحزن ولكن سيصمت كل شيء فيك ويكتفي بالتأمل.. حتى الموت نفسه لن تنتظره.. ستشعر بأنك تريد أن تشبع روحك من كل تلك الأمورالتي كنت تحبها.. ستشعر بجمال الحياة وعدم جدواها.. تناقض غير مؤذٍ وجميل.
يتبع...
من مذكرات امرأة لم تعرف كيف تعيش
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق