على قدر التنازل تكون قوة الضربة.. موجعة
مهما كان حجم التنازل الذي تقدمه في الحياة ضئيلاً فإن ردها وبلا شك سيكون عنيف، لذا لا تتوقع أنك بتقديمك صورة مثالية عن نفسك وأنت تقدم للآخرين امتيازات على حساب نفسك ونفسيتك ستحصل على مقابل يثلج فؤادك، وستكتشف أنك فتحت بوابة ستحارب لأجل إغلاقها وفرض خياراتك واختياراتك مرة أخرى.
لا أقول هذا كنوع من الفلسفة في الحياة أو من ادعاء الحكمة التي لا أملكها البتة، بل فقط.. لأني سئمت سلوكات البشرالتي تجعل منك مجرد وسيلة لتحقيق مآربهم أو لأنك بشكل ما تفقد حبك للحياة.
يبدأ الأمر بالانبهار وينتهي بالدهشة.. انبهار مقرون بالامتنان والدهشة مقرونة بالامتعاض..
كنا زميلتيْ عمل، كانت طيبة حد الملل وكنت أحاول باستمرار أن أبعث فيها بعض الشر لكن بلا جدوى.. يخرج الزميل قبل الاوان ويترك لها عمله، يكلفها المدير بعمل ليس من مهامها لأنها تتقن العمل فتفعل، يحملها زوجها كل أعباء البيت فتتحمل، ويعاملها أبناؤها كخادمة فتخدم، تطلبها أختها في أمر متعب فتلبي رغم التعب وأي تعب؟
ذات صباح وصلت متأخرة، لك أن تتخيل حجم الدهشة في الشركة، وحجم اللوم والاستغراب، لم تجب ولم تعلق، وقفت عند مكتبي، قالت: "الدنيا تدور من حولي أشعر أني سأصاب بانهيار عصبي."
صدقاً كنت أعتقد أنها لا تشعر، أنها من جليد.
كل ما فعلته يومها، أني أخذتها لطبيب عام واستخرجت شهادة مرضية وهو أمر هين في الحقيقة ولكنها فعلاً كانت تستحقها، ركبنا أول سيارة أجرة نحو منزل والديها، حاولت الاعتراض رغم يأسها، ولكنها كانت منهارة تماماً، دخلت معها كانت أمها مندهشة ولكن دهشتها تحولت إلى حسرة، قالت أنها كانت تعرف أن هذا اليوم سيأتي.
الأمّ، وحدها التي تحتويك ووحدها التي تأويك.. ووحدها التي تطبب جراحك لتبعثك للحياة من جديد قويا.
وحدها الأمّ من تزيل عن كاهليك تراكم سنين من الشقاء المضني.
وأمّي التي تراكم فوق كتفيها في لحظة واحدة شقاء عمر كامل، كادت أن تنهيني، لك أن تتخيل عيني أمّي حين تنظر إليّ بعطف بغير شفقة، بحسرة. لا يقتل قلب الأمهات إلّا الحزن المخفي خلف المقائي.
أموت وأنا أعرف معنى الأمومة رغم أني لم أنجب، في تلك اللحظة أصبحت أمّاً لأمّي، أمّي سندي وابنتي التي لم أنجبها.
أمي.. الشخص الوحيد الذي علمني معنى الحياة وكيف أعيش، ولم أفقد قدرتي إلّا حين خرجت من تحت جناحها وأعتقدت أني كبرت بما يكفي وتعلمت كيف أعيش.
قد تتساءل ما العلاقة بين الموضوعين؟ العلاقة أني قدمت التنازلات للحياة لكن بشكل عكسي، فسلبت مني الحياة كل شيء.. أجلت الحب أجلت الأمومة، أجلت السفر، أجلت العمر.. وتنازلت عن كل الحياة بعذر وبغير عذر.. لأكتشف فجأة أني تأخرت.. كثيراً
من ذات المذكرات.. امرأة لم تعرف كيف تعيش.