لا أعلم كيف.. ولكنني منذ الصغر كنت صاحبة خيال غريب..
كان بإمكاني ولا يزال أن أرى الوجوه في أي شيء يقع عليه بصري، أميز العينين الفم الأنف وأرسم وجها من خطوط ونقاط لا معنى لها ولا لوجودها قرب بعضها، وأتعجب كيف لا يراها غيري.. كنت أقول لأبي: "أنظر.. هذه عينه وهذا أنفه وفمه إنه وجه" يضحك أبي يحملني أو يشغلني بأي أمر لكني لم أكن أنشغل، كنت دوما محاطة بها تبتسم أو غاصبة أو حزينة أو بلا تعابير "صماء"
وبقيت على هذا الحال إلى عمري الحالي.. ولكني لم أعد بحاجة لنقاط وخطوط أو حجارة أو أي شيء.. تكفيني المرآة لأرى وجه من أحب وهو يرقبني أذوي.. تعلوني الصفرة تارة والسواد تارة أخرى..
لم تعد المرآة تعكس وجهي بقدر ما عادت تعكسهم جميعاً وهي تعزف لحن الحياة.. وأنا أقر بأننا جميعاً هالكون ليس كعزاء لي.. بل لهم.. من الدائم على وجه الأرض.. يبقى وجه ربك الكريم.
كنت أخرج وصديقتي نتمشى ونأكل المحظورات.. وكلما مررت بشخص مهما كان عمره.. أقول: "أنظري ألا يشبه فلان ألا تشبه فلانة" فتضحك فقط لأني كنت معروفة أني أسوأ من قد يكتشف الشبه بين الناس يقولون أني لا أجيد التشبيه "ما تعرفيش تشبهي الناس" ولكن لا أحد يعلم أني بت أرى الوجوه على الوجوه.. وأني أمارس الشوق قبل الرحيل..
ومن المواقف الطريفة التي حصلت معي في الماضي القريب.. أني كنت في السوق أتجول في محاولة لإرضاء غروري والفتك بشيء يواقف ذوقي الصعب في اختيار الملابس إذ تعد رحلة تعذيب لي ولمن ترافقني، حتى أوقفتني امرأة في متوسط العمر.. وهي تلومني على تأخري في الحضور وعلى عدم مهاتفتها.. نظرت إليها باستغراب فتحرجت بادئ الأمر واحمر لونها ثم اعتذرت قالت أنها اعتقدتني ابنة أختها "فأنا أشبهها كثيراً" وأخذت تصف لي أوجه الشبه بيننا في كذا وكذا وكانت القائمة طويلة، أخذني فضول مريع لأرى هذه التي تشبهني.. أهناك من تعاني من النظارة السوداء مثلي؟؟ أهناك حقاً نسخة ثانية عني؟؟ وبقيت أتبع تلك المرأة حتى حضرت "لالة مولاتي" كما تقول أمي.. اندهشت... فلا شبه بيننا إطلاقاً حتى أنها كانت بيضاء البشرة، بنية العينين، قصيرة القامة، لا أنف، لا شفاه، لا خدود ولا جبين، تكلمت بصوت مرتفع بكثير من التذمر "من أين بيننا كل هذا الشبه الذي تحدثتِ عنه؟" وكان بجانبي صاحب محل لم أنتبه لوجوده أبداً مع أنه كان يرقبني منذ البداية حتى أنه كان يرقب ما أرقب دون أن يعي ما أفعله، وحين انتبهت له قال وهو يبتسم "هاذيك القصيرة؟؟" قلت أنها هي بالذات، فأكد أنها فعلاً تشبهني، قال ليس في الملامح ولكن هناك شيء بيننا مشترك لا يمكن وصفه، اعترضت بشدة واتهمته بأنه لا يجيد التشبيه فليتوقف.. خرجت من السوق دون أن أشتري شيئاً كنت أردد أنهم أفسدوا كامل يومي، فالأوجه اختصاصي.
لعلها فعلاً تشبهني... بل لو أنها حقاً كذلك.. أسيشير إليها من أعرفهم إن مرت بقربهم فيقولون يوم لا يعود لي وجود.. أنظروا تشبهها كثيراً.. أهناك نسخ عني تمنع نسياني.. ربما.. أو لعله "ليت"
وتبقى الحياة أجمل من الموت مهما كانت بائسة.. ولو على وجه غير وجهك
نصوص مسروقة من مذكرات امرأة لم تعرف كيف تعيش..
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق